حسين كامل سعدون
يأخذنا الكاتب جمال العتابي عبر رحلة هرب آسرة من الأنظمة السياسية في بواكير الستينات، متمثلة بشخصية ‘محمد الخلف’ الذي تدور وتنمو حولها خيوط الحكاية..
فيعمد بنا الكاتب على كيفيّة تشكيل ملامح الهرب في مدن جنوب العراق تحت نظام يسمى (جماعتك)، الهرب إلى قضية أسمى من الدوافع الفكرية للبطل التي أجبرته على السجن مع الفصل عن الوظيفة، فالغاية هي العائلة التي تتكون من عشرة أبناء وزوجة لا ماء ولا زاد، فتكون الغريزة الأولى هي قضية الأهل التي تحرّكه وتعدّ من أهم المكنونات الداخلية لمحمد، لذلك تنشدّ هذه الشخصية الجنوبية إلى الانصات لفكرة الحرية: “أ ترى نطلب الحق من السجّان؟ الطغاة قطعوا كلّ ألسنة الطير”. فتتبين لنا كم هي مهمة تفصيلة العائلة.
إن الانصات للتحرر يبدأ منذ لحظة الافلات من السجن، فمحمد الخلف يدرك جيداً أن الصمت مصنعاً للكلمة، ومهماً بالنسبة له كشخصية محبوكة وكيّسة ملتزمة، لكنها ساخرة ومتهكمة بذات الوقت، فالكاتب هنا عمل على تأثيث بيئة الصمت.
واظهارها لنا في عدّة أصوات في الرواية عن طريق الولوج إلى دواخل البطل الرئيس، أولها: (الصوت السياسي والفكري): “ماذا يحدث لو شتمت <الرموز> يا أخي، هل سيزعلون عليك؟ أم تنقلب الدنيا؟ الإنسان يؤكد وجوده بفاعلية وحضور وازدهار عبر ممارسة الفكر بصورة حيّة خلّاقة متجددة بنّاءة مثمرة، هنا البطولة الحقيقة لا في السجون”.
وبعد أن صار راديو بغداد في عرس من الانتصارات بعدد الضحايا، بدأ البطل يقوم فعليًا بتأثيث بيئة الصمت من حوله، وهذا هو التعاون بين الشخصية المكتوبة والكاتب.. فالهرب يتطلب الحيطة والحذر ولقاء الناس الثقات فقط، بعد اختبار سرّيتهم وسعة صدورهم، لذا قال مبرراً فعلته: “إذ كان يشغلني انحسار النور في الفضاء، كنت أترقب الظلام، خيّل اليّ أن الكاظم ما كان يتردد بالإفلات من سجنه لو سنحت له فرصة مماثلة في الخلاص”.
هذه الفكرة دفعت محمد ينتقل من يد صالح كيطان، إلى زامل، ومن زامل الى نوار الناهض، وهكذا يتقوّس الزمن بأقدامه من الكوت إلى قرية العطرانية في الناصرية، وهو يحمل بداخله (صوت المكان): “عليك يا محمد أن تذهب إلى حيث تحملك نجمة القطب، فينهار الجدار بينك وبين المدى، الليل خزّان من الهواجس لا ينضب، ما أجمل الدنيا تحت سقف الظلام، ليس بوسع أحد أن يبلغ الفجر دون المرور بطريق الظلام، كما يقول شيخ العارفين”.
يعبر محمد المدن والقرى محفوف الخطى، متوتر العصب، يجرّ بدنه الليل، وينهار احساسه حين يخاطب الأحبة، فيظهر لنا صوته الثاني: (الصوت الحميمي): “زهرة.. أريد أن أسمع ما يعتلج بأعماقكِ الآن زوجتي العزيزة: مرّت شهور، وانطوت أخرى، وأخرى لم تزل تُطوى، فتطوين بها أودية الوحشة، تحدّثي الآن، هل من دليل لقلبك يُدرك أنني ما عدت سجيناً…”
لمّا وصل محمد الخلف إلى العطرانية في بيت زوج أخته نوار، زار الأمان قلبه أخيراً، وبدأ يقصّ الحكايات ويتواصل ويرسم ويكتب، ويعلم الأطفال، ولهذا لقّب بالعطراني: “لأغني حلم العطر في الليل المطفأ ويدعني أذرع الصمت وحدي” مقتبساً لقبه من ثيمة العطر الذي يرشّ فوق نبضات الأوردة فلا يُعرَف، لذا علينا البحث عنه.
في الوقت الذي ترك به القرية بعدما حفروا له حفرة للاختباء وزوروا له هوية شخصية، قرر الذهاب للعائلة بعد التواصل معهم عبر المكاتيب والرسائل الخاصة، تاركًا خلفه الأقارب والأحبة الذين تعلقوا بقلبه، وبعض المذكرات التي عنونها: ‘حب في الحفرة’ فقد كسر قلوبهم بالرحيل: “عن أيما هدف تبحث الآن، الغزاة دخلوا بيوتنا وأفكارنا”. إلا أن العشرة أبناء والزوجة كانت قضيته الأولى باللقاء والشوق.
فلو فككنا النص مقارنة بحياة الكاتب، لوجدنا التشابه الواضح بين الواقع المعاش والواقع المرسوم على الورق؛ لأن خالد، الابن الأكبر لمحمد الخلف، يشبه الراوي وتفاصيل حياته، ومحمد الخلف حالة اخرى لها مايشابهها، في هذا الواقع، ولهذا ندرك لماذا تتكثّف الصورة الشخصية للكاتب في السرد الذاتي لأبطال الرواية دونما البقية، خاصة في الفصول الأخيرة للعمل، وهو ما مكّن الرواية أن تكون أداة تعبير حقيقية عن مرحلة، بلغة امتازت ببراعة فنية، من حيث الاتقان والتوليد، كان فيها الكاتب صلة الوصل بين مختلف الاصوات والحكايات، وهو منظم الاستطرادات، وراسم العلامات والفضاءات، والحوارات التي تميز بعضها بسخرية لاذعة وحاذقة في الوقت نفسه، اعتمد العتابي في انجازها على تقنية الأسئلة التي تجمع بين خطابين، احدهما مضمر الا اننا نستشفه من السياق. كما تعددت الاصوات في منازل العطراني، هي اصوات الهاربين، المغامرين، الملتاعين، هذا التعدد يتساوق مع لعبة السرد، ومستويات اللغة التي استحضرها الكاتب لتضطلع بوظيفة التلميح او الاستثارة.
أعتقد أن جمال العتابي يحرق بروحه من الداخل حين يكتب السرد القصصي، لينير لنا الحبر الأسود، فشخصيته ‘السردية’ اختلفت عما كانت لمّا كتب المقالات السيريّة عن الأمكنة، الشخصيات، والفنون، فجاءت بيده ‘منازل العطراني’ تحفة مبهرة، مكتملة، ورواية أولى غير قابلة للتفاوض مع الملاحظات، وهنا من غير الجائز لنا أن نتحدّث عن اللغة والأدوات وتقنية الأسلوب، فهو اجتاز مراحل البناء وترك لنا نصاً ناضجاً يحوي ثيمة عائلة تدور حولها الأزمنة والأنظمة والسلطات بالتغييب والاعدام والسجون.
منازل العطراني، رواية جديدة، تستحق ان تحظى باهتمام النقاد والقراء، على حد سواء، في تناولها قضية الانسان بعمق وشمولية، والواقع الانساني في صيرورته وتناقضاته الدائمين، لذا أدعو الى قراءتها.