وبالتاكيد أن هذه الإحالة سوف لن تكون خاصة بي، إذ ستشكل نظرة أي قارئ لنص آل سعيد اللغوي التنظيري الذي يتقدم رسوماته التي تعالج هذه الثنائية بالرغم من أن هذا المبدع الكبير كان يريد (الحرب) بوصفها بعدا أحاديا بعيدا عن الثنائية الضدية حتى لو ارتبطت بها إجرائيا ، إذ يبدو أنه لا ضرورة لديه لملازمة (السلام) بوصفه مفردة مضادة لمفردة الحرب.
حالما نقرأ التخطيط الأول نجد فيه الحرب (مكانا وزمانا) ، ويحصل ذلك في التاريخ المثبت على التخطيط 4 -22/ 9/ 1980 زمانا أولا ، والعراق متمثلا بخارطته في اليسار الأعلى من الكتلة التخطيطية مكانا ثانيا.
ثمة أشكال آدمية لوجوه صامتة، وتشويهات هلامية لفيروسات جينية قاتلة ، وبكتريا تلتف على حروف مشوهة ، هي ذاتها وقد تشكلت بانشطارية لتحيط بحروف أوشكت أن تتمزق، بما يعني مطابقة المبنى للمتن أي الدال للمدلول .
يتحول آل سعيد من الجمالي إلى المعرفي (التوثيقي) عندما يستعير رموز الاستثنائي (الطارئ) وهو الحرب ، ليمزق جسده بآليات سيميائية (التنقيط، التسهيم، أبجديات الأرقام والحروف) من أجل توصيف المكان بدقة بوصفه مدلولا محسوسا، بينما لا تراه يتعامل مع الزمان الا بوصفه دالا، لتبنيه الحس إشاريا إلى الفترة التي وقع الحدث فيها (1980).
أميبيا الحرب وانشطاراتها من أفضل المداليل التي تصور الوقائع. كتل سوداء صلبة يشكلها البياض الهش، ويشتغل حرف الواو (و) ليرمزإالى الثنائية الضدية ما بين (الوجه والخارطة) في إشارة مغرقة بالرمزية تومئ إلى طرفي الصراع.
مصائر متداخلة ، وتشوهات متشابهة ، وعنف غريزي، ودفاع محكوم برؤية واحدة ، واختلاط مثيولوجيات وأفكار ، وتزاحم حضارات، وأيقونات هلامية، وأضرحة وقبور ، ووجوه مشوهة، وأخرى مندهشة، خائفة، وأبواب مغلقة سوداء، وخرائط ممزقة. وشواطئ منفلتة، تراقب بعضها الآخر، الحروف مادة تصويرية دالة والأسهم علامة مهيمنة إشارية، ووجوه كالاءفاعي (بحسب تعبير كافكا في القصر)، وعيون تهرب مذعورة.
تلك هي صورة الحرب التي سجلها شاكر حسن آل سعيد، وهو في كل ذلك لم يضع فسحة للسلام في لوحاته التخطيطية هذه أبدا ولهذا أخذت هذه التخطيطات بعدا أحاديا في تكرر الموضوعة وفي استخدام آليات التعبير الأيقوني.
الأرقام لغة
في لوحة رقمية تشير إلى خارطة العراق ، استخدم فيها التشكيلي الكبير الأرقام من “ 1 حتى 32” من أقصى جنوبها الشرقي حتى أقصى راسها الشمالي الغربي، بينما اشتغل الفنان على كتلتي السواد والبياض في ملء فراغ الأيقونة المثلثة المدببة. بينما بدا الجزء العلوي من جسد التخطيط الذي يشير لخارطة العراق ، وقد سقط من أعلى هرم الخارطة إلى أقصى الجنوب ، وكاءنها هوت من أعلى الراس في أقصى الشمال حيث تركت مثلثين لم يلتحقا بالجزء الذي هوى للأسفل.
إنه تخطيط يحمل دالا يتجه إلى مدلول مؤجل لما بعد الحرب ، و كانه يشير إلى ما آل إليه فضاء ما بعد الحرب تحديدا ، من تمزق حقيقي للمنظومة الراهنية الاجتماعية والوطنية ، التي تمثلت بالاحساس البصري للأشكال المشوهة مكانيا.
تبدو القتامة بمجملها وكأنها إشارة واضحة للحرب كلها، عراقيات (نساء افنيون لبيكاسو ) صارخات، من رعب السواد الذي أحال البياض إلى شبح داخل اللوحة.
من وراء سواد الجماجم تسمع الصرخات لا صمت في (الحرب)، وكأن آل سعيد يشير إلى أن سكون السلام غادر اللوحة تماما ولم يبق فيها سوى هذا الضجيج الذي نسمعه من أفواه النساء المذعورات وهن يرفعن رؤوسهن إلى الأعلى في خطاب دلالي على مناجاة خائفة للسماء.
لا شيء يزهر في الحرب سوى العويل.
ثنائيات التخطيطات
1 – ثنائية الضجيج/السكون،
بين الترقب في تخطيط الجندي والبندقية والزحف المتوقع،
2 – ثنائية الموت/الطماءنينة
بين الصراخ والصمت في تخطيطات النساء الصارخات.
-3 ثنائية التماسك/التمزق
بين اجزاء الخارطة في إشارة لزمن أتٍ.
4 – ثنائية السقوط/النهوض
بين وجوه منكفئة وأخرى تحاول النهوض.
وكل تلك الثنائيات تختفي وراء:
5 – ثنائية السواد والبياض
بوصفهما ( السواد والبياض ) محورين:
الأول – (الحرب) كطارئ استثنائي،
والثاني – (السلام) طبيعي وأساسي.
اشتغل آل سعيد على الشعور البصري بقوة ما دامت معالجاته مكانية، بوصفها مدلولا، حتى لنراه يستخدم الحركات والوسائط التالية:
1 – الحوار المتكرر بين السواد والبياض وتقلبات الغلبة بينهما.
2 – التألف المكرر بينهما كونهما يشكلان روح المعنى.
3 – الاستقلالية في المعنى لكل لوحة بعيدا عن المعنى الكلي الواحد .
وكل ذلك قد جمع من مرجعيات متعددة اجناسيا: رواية، قصيدة ، قصة ، تخطيط افتراضي، الأفلام الوثائقية، الشرائح السمعية والبصرية) ، أي بمعنى آخر أن تعدد المرجعيات خلق تعددا في المعاني التي توزعت في لوحات منفردة لا مجتمعة، وكأننا نسأل:
كم وجها للحرب أراد آل سعيد أن يصوره؟..
ذلك ما تشير له تخطيطاته المهمة تلك التي حاول أن يصور من خلالها انهيار العالم وتمزقه.