متابعة المدى
نشر العشرات من المثقفين، الاثنين، بياناً حول الجندر، منبهين بان هناك ربطا مغلوطا ومتعمدا لهذا المفهوم، بالمثلية والإلحاد والتحول الجنسي. وقال المثقفون في بيان تلقت (المدى) نسخة منه إنه “شهدت البلاد،
في الأسابيع الماضية، حملة مسيسة وممنهجة، ما تزال تتصاعد، على استعمال مفهوم “الجندر”، “أو النوع الاجتماعي”، في المجال العام، أطلقتها وقادتها قوى نافذة في الدولة وشخصيات ودوائر قريبة منها ومن محيطها الآيديولوجي، تقدم الجندر بوصفه تهديدًا اخلاقيًا خطيرًا للمجتمع وتقويضًا حقيقيًا لمعنى العائلة وهدمًا للدين، وذلك عبر ربط متعسف ومغلوط ومتعمد لهذا المفهوم، بالمثلية والإلحاد والتحول الجنسي”.
وأضافوا، “وفي إطار هذه الحملة المسيسة وأجواء الرعب التي صنعتها، أصدرت مؤسسات رسمية عراقية تعليمات برفع مصطلح “النوع الاجتماعي”من وثائقها، ومنع القيام بأية أنشطة أو فعاليات مرتبطة بالمفهوم. وقد بلغ الأمر ذروته بأن أصدرت قوى مسلحة، تعد جزءًا من دائرة الحكم، بيانات تمنع فيه استعمال هذا المفهوم وتطالب العراق بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، التي صادق عليها”.
واعرب المثقفون في بيانهم عن “ادانتهم التشويه المتعمد للمعرفة وفرض نوعٍ من الوصاية والهيمنة من دون معرفة علمية على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، فانهم يجدون أن هذه الحملة تنطلق من نزعة ذكورية، وتتبنى خطابًا يروج لثقافة كراهية النساء، ويبرر العنف ضدهن، ويجبرهن على العودة الى المجال الخاص، ووأد نضالات قرون من أجل العدالة، وتحرير النساء من تهميشهن، ومساواتهن بالرجال، في المواطنة واستحقاقاتها وما تتيحه من فرص. وترى الموقعات والموقعون أن من بين الأهداف الكامنة وراء هذه الهستيريا الشعبوية ضد مفهوم “الجندر” محاولة التضييق على مؤسسات المجتمع المدني، ولا سيما المختصة بقضايا المرأة. وقد شجعت هذه الحملة ومن يقف وراءها على استهداف ناشطات المجتمع المدني وناشطيه، بالتهديد والتنكيل بهم، لقمع اية محاولة لتفكيك اللبس في فهم هذا المصطلح. وترى الموقعات والموقعون أن حصيلة كل ذلك ستكون تقويض حقوق الإنسان/ المواطن العراقي، التي هي شرط كرامته ومعنى وجوده، ويؤكدون على الآتي:
1- يندرج الجهد الحالي لشيطنة “الجندر” في مسعى أوسع تمارسه القوى والأحزاب الإسلامية، لافتعال معارك وأزمات وهمية، لتهرب نحو ميدان الأخلاق، الذي لا يقع ضمن مسؤوليتها، بل هو اختصاص المجتمع بكل تنوعه، بهدف أن تتملص من مسؤولياتها المنصوص عليها قانونًا، وللتغطية على سجل فشلها الذريع والموثق في إدارة الملفات الحيوية التي تختص بها الدولة، كتوفير الخدمات، وتشييد بنية تحتية رصينة، ومكافحة الفساد الذي ينخر عميقًا في مؤسسات الدولة المختلفة، وتوفير الفرص الاقتصادية لملايين الشباب العراقيين الذين يدخلون سوق العمل، وضمان احتكار السلاح بيد الدولة. إن هذا الهروب يمثل إفلاسًا سياسيًا وأخلاقيًا لهذه الأحزاب الحاكمة.
2 – إن “الجندر” مفهوم أكاديمي راسخ، بأبعاد إنسانية ومؤسسية وحقوقية، يُدرَّس في جامعات عالمية كثيرة ومرموقة، ويختص بالبحث في أشكال التهميش والتمييز المختلفة ضد المرأة ومواجهتها، في كل المجتمعات، بضمنها المجتمعات الغربية، وهو مفهوم واسع النطاق والتطبيق بوصفه أداةً ضرورية للمساعدة في الجهد الأخلاقي لبناء مجتمعات إنسانية يُحترم فيها الجميع على نحو غير مشروط، وينُظر فيها للمرأة ويُتعامل معها بوصفها كائنًا عاقلًا وقادرًا وكاملًا مساويًا للرجل، وليست تابعة له، أو منقوصة الكرامة الإنسانية. ولا علاقة لمفهوم “الجندر” بالتوجه الجنسي للأفراد، أيًّا كان، ولا يتعاطى مع التغيير البايولوجي للجنس كما تروج قوى سياسية حاكمة، علاقتها بالمعرفة الرصينة فقيرة وانتهازية. لقد أصبح هذا المفهوم مفهومًا عالميًا، فتبنته الأمم المتحدة في اتفاقياتها ووثائقها الخاصة بحقوق الإنسان، فضلًا عن الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام 2003، ضمن سياساتها الوطنية وآليات عملها، إذ اعتمدت التحليل الجندري أداةً مهمة لتحديد الفجوة بين الرجال والنساء، وتشخيص الأنشطة والظروف والاحتياجات التي تؤثّر في تحكّمهم في الموارد واتخاذ القرار. وكان هذا التحليل هو الخطوة الأولى في بناء العديد من الستراتيجيات والخطط والبرامج، منها “ستراتيجية مناهضة العنف القائم على اساس النوع الاجتماعي”، و”الستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة العراقية لغاية 2030″، و”الخطة الوطنية الثانية للقرار 1325″، و”سياسة التخفيف من الفقر”، كما يعد أداة مهمة لتقوية قدرة السياسات او البرامج على تلبية الاحتياجات المختلفة للنساء والرجال. كما كان الأداة في بناء مشروع قانون لمناهضة العنف الأُسَري، الذي تقاومه القوى المتنفذة على الرغم من الحاجة المجتمعية الماسة له.
3 – ينسجم مفهوم “الجندر”، بوصفه سعيًا منظمًا لكشف الاضطهاد ومواجهته وتحقيق المساواة وترسيخها، مع الالتزامات الدستورية للدولة العراقية بالمساواة بين العراقيات والعراقيين، بوصفهم مواطنين، وتكافؤ الفرص بينهم بحسب نص المادتين 14 و16 من الدستور العراقي الدائم. وفي إطار هذا الفهم، وافق العراق على الانضمام لمعاهدات ومواثيق دولية نصّت على توظيف الجندر في مكافحة التمييز ضد المرأة، منها تبني القرار 1325 عن المرأة والسلام والأمن، والقرارات المكمّلة له، ومنهاج عمل بكين الذي شكّل إطارًا عالميًا لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات، وأجندة التنمية المستدامة لعام 2030. كما أن للدولة العراقية، في الكثير من مؤسساتها، برامج ومكاتب متخصصة بالنوع الاجتماعي، على مدى سنوات، وحقّقت إنجازات ملموسة، ويُراد الآن إلغاؤها لأسباب آيديولوجية لا علاقة لها بالمصلحة العامة، ولا سيما أن الحملة الممنهجة على “الجندر”، التي رُصدت لها اموال وموارد ضخمة، والدعوات ضدها من شخصيات عامة، سياسية واجتماعية ودينية، تمثل خرقًا جديًا وفاضحًا للدستور العراقي والالتزامات الدولية التي اختار العراق الدخول فيها، وظلمًا فادحًا للنساء العراقيات وتقويضًا واضحًا لمبدأ المساواة الدستوري، وتعزيزًا للجهد المتصاعد بفرض هوية أحادية ضيقة على المجتمع العراقي المتنوع تتبناها القوى والأحزاب الإسلامية الحاكمة، وتنكرًا للسياسات التي تبنّتها الدولة عبر عقدين، ما قد يشير إلى مسعى لإعادة صياغة آيديولوجية لنظام الحكم.
4 – لقد أفضت هذه الحملة، وبشكل مقلق وجدي، إلى صناعة جو من التخويف داخل الدوائر الأكاديمية المختصة وطالت مؤسسات المجتمع المدني التي تنشط في مجالات المرأة والجندر والمساواة الاجتماعية، وهو أمر لا يهدّد فقط، وبشكل صريح، الحريات الأكاديمية، وحرية الرأي والتعبير، على نحو عام، ولا يزعزع فقط الأمن المجتمعي، بل يمهّد لاستعادة جمهورية الخوف ثانية”.
وأكد المثقفون في بيانهم بأنهم “اذ يدينون الحملة المسيّسة الممنهجة والمفتعلة فإنّهن/م يؤكدون أنّ نقاش “الجندر” وتوظيفه في المجالين الخاص والعام يقع ضمن حرية التعبير، التي نصّ عليها الدستور العراقي وكفلتها المواثيق الدولية التي وقّع عليها العراق. وعليه تكون شيطنة المفهوم ومنع توظيفه في المؤسسات الحكومية وتخويف المجتمع منه خرقًا لحقوق الإنسان، فضلًا عن كونه أحد أشكال التحريض ونشر الكراهية في المجتمع. إنّ المعرفة يُرد عليها بمعرفة أخرى في سياق آمن وإنساني يضمن حق الاختلاف، وليس بالمنع القانوني والتخويف الاجتماعي والقسر الأمني”.